الفاخوره(بقلم شاعر المنتدى) قصه قصيره

كان دائماً يشغلني هذا الطريق الزراعي الضيق..حيث قطع الأرض الصغيره المزروعه على جانب البحر المعروفه بالشط..والذي لا زال حتى الاَن هوايتي حينما أريد إستنشاق الهواء النظيف.. على شمال الطريق كان ترعه صغيره أشبه بمصرف للأراضي وذلك مصدر للمياه عند الري، المياه فيها راقده خضراء رائحتها عفنه يكثر بها العشب الذي يسميه بعض الناس الشيطاني، متعانق الأوراق والمملوء بالضفادع ذات الصخب العالي ليلاً.هذا ما في الترعه.. اما على جانبيها كانت ترتفع أشجار الموز المتدلي منها السباط المملوء بأصابع الموز الخضراء .إلى جانب النخيل المتناثر في كل مكان.

كنت أتمشى في هذا المكان قبل الغروب لأرى الفلاحين منهم من خلع جلبابه وظل بالصديري والسروال ونزل في أرضه.ومنهم من أشمر جلبابه إلى وسطه ليربطها بقطعة قماش رفيعه حتى لا تبتل من طين الأرض..

لكنني إلى جانب هذا كان أمر اَخر سبباً في ذهابي إلى هناك..هو شيئ ربما يكون غريباً على بعض الناس أو معظمهم..غريب الإسم او الشكل .. كثير من الناس لم يروه أويسمعوا عنه او عن اسمه هذا الشيئ هو ..الفاخوره.. المبنى الذي يرتفع إلى اعلى أكثر من سبع أمتار في شكل دائري أو اسطواني حيث أنه يشبه القلم الرصاص . المبنى من الطين والقش.

(عم عطيه).. صاحب الفاخوره.. يعمل في صناعة الفخار .حيث لأنه يجلب الكثير من الشرب المخلوط بالماء فيكون الطمي ثم يضعه على اَله تدور بسرعه هائله بواسطة القدم ويظل مستمر في تدويرها وقطعة الطين تدور امامه في سرعه شديده وهو يشكل فيها كيفما شاء فيصنع القلل والطواجن والبلاص والزير وما شابه ذلك من الفخاريات..

كنت أحب دائماً أن أشاهده وهو يقوم بعمله الذي كنت استشعر بانه عمل من السهل أن اقوم به.. ولكنني سرعان ما عرفت انه عمل سهل بالنسبه له وصعب على شخص مثلي ان يقوم بذلك..

(علي)..الصبي الذي يعمل بمساعدة عم عطيه.. يحمل الفخاريات الذي يصنعها عم عطيه إلى خارج الحجره المجاوره للفاخوره.. إلى الجانب الاَخر للترعه ويرصصها وفقاً لطريقه معينه لا أعرف ما هي وبحرص شديد فهي مصنوعه من الطمي ولم تحرق بعد...

حتى أن يجمع الكثير من الفخاريات بعد صناعتها وتركها وقتاً كافياً كي تجف.. ويجمع القش والحطب الجاف بكميات هائله ثم يضعه في الشاروقه الموجوده اسفل الفاخوره ويضع فيها الاواني الفخاريه ويشعل إياها...

تشتعل النيران أكثر فأكثر والدخان الأسود المزفت يخرج من فواهة اعلى النافوره متدفقاً في هيئة قرطاس ممزق يتخلله شوائب سمراء من بقايا القش المحورق وكأنني انظر إلى قطار السكه الحديد منذ أن كان يعمل بالفحم الجيري..

ساعتان أو ثلاث ويطفئ عم عطيه الفاخوره..ويبدأ في إخراج الفخار من داخلها بعد حرقه. أصبح شكله متغاير تماماً لما كان عليه قبل أن يدخل هذا المبنى الغريب..كأنه كالسحر.. شيئ يدخل المبنى ويخرج بعد ساعات قليله في شكل مختلف تماماً... وهكذا لحين أن اسمع أذان المغرب او يشغلني إحمرار الغروب في السماء فأتذكر أن على الرجوع إلى بيتي أو على الأقل مغادرة هذا المكان.. لأن لايجرؤ أي إنسان مهما كان أن يسير أو يجلس في هذا الطريق ليلاً.أو تحديداً بعد صلاة المغرب...

حتى عم عطيه كان المغرب يؤذن فيغلق عمله ويدفع للصبي أجره ويرحل ..

لكني في العوده أنتقل إلى مكان اَ خر وطريق مقابل لهذا الطريق التي كنت عليه... فاعبر من على ماسوره توصل جانب هذه الترعه بالجانب الاَخر فوق الماء المتعفن النتن الرائحه والغاب الهائش الهائج الذي كان يدخل في عيني وأذني وانفي حينما كنت أمر من على هذه الماسوره

دائماً كان يؤذيني هذا الأمر لكنني لا اعرف ما الذي يحملني على فعله.. والماسور كانت كما يقولون (دايبه).. لا تتحمل وزن قطه تمر عليها.. ولكنني أفعل هذا دائماً دون أن تنجرف بي في الترعه أو انني كنت امر عليها كالبرق لأنني أعتدت على هذا الأمر فاصبح من اليسير بالنسبه إلي ...

الشيئ الوحيد الذي كان يزعجني هو صوت الضفادع التي تبدأ في الضجيج عقب أذان المغرب وكأنها مبرمجه على هذا ..أما الأمر الثاني الذي كنت أخشى التأخير منه أيضاً..هو الكلاب الليليه المنتشره في ذلك المكان والتى لا تكف عن النباح ولو للحظه واحده.. وكان لونهم أبيض أو أبيض يتداخل به بعض النتوء السوداء .. لكني كنت لا أظهر الخوف الموجود داخلي ..بل أمشي في الطريق دون أن أبا لي بهم وإلا أن شعروا بالخوف على وجهي أو بدأت في الجري مزقوني إرباً..ولن يتركوا مني سوى العظام..

فالذهاب لهذا المكان كان يوافيني ببعض المخاطر ولكني لا أعلم ما الذي يحملني على ذلك..

ولكن...كل هذه المخاطر كانت تتوه عن بالي وأنا جالس أشاهد من بعيد عم عطيه وهو يتحكم في قطعة الطين ويشكلها كما يحلوا له بصنعة لطافه..وبيسر بإستخدام أصابعه .. كنت اقول دائماً ما الفارق بينه وبين المثال محمود مختار؟؟؟

فكان فناناً .. وهو يستحق ذلك بالفعل ..هذا الرجل لا يجيد القراءه ولا الكتابه ولايعرف من الدنيا إلا الفاخوره وحجرة تصنيع الفخار وبيته والجلباب الذي يرتديه .. ولكنه دائماً كان يمشي دون حذاء .. كنت أعتقد دائماً ان عم عطيه لا يفقه عن الدنيا شيئاً حتى أنني كنت اراه يشبه الفاخوره .. حيث انه كان طويل القامه عريض الكتفين . أسمر اللون فمه يكاد أن يخلو من الاسنان وبشرته يتخللها الكثير من الحفر والتجاعيد ..ولحيته البيضاء التي يتناثر بها شعيرات قليله حتى أنني إن إقتربت منه أستطيع ان أحصيهم لقلتهم .. والعمه الموجوده على راسه والتي أسودت من دخان وغبار الفاخوره .. كنت اظن ان عم عطيه لا يريد إرتداء الحذاء أو إنتعال شيئ ما في قدمه برضاه.. لكنني أظن أيضاً انه ربما لا يوجد حذاء في حجم قدمه . حيث كان اصبع قدمه الكبير كقدم طفل صغير ..

*******

بقلم

محمد عبد الرحمن شحاته

شاعر وروائي

http://raket-poet.blogspot.com/